فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد بالمجرمين: المشركون، أي المجرمين مثلَ جرمهم، وقد بينته جملة {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} [الصافات 35].
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}.
استئناف بياني أفاد تعليل جزائهم وبيان إجرامهم بذكر ما كانوا عليه من التكبر عن الاعتراف بالوحدانية لله ومن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه وصفًا يرمون به إلى تكذيبه فيما جاء به.
فحرف {إنّ} هنا ليس للتأكيد لأن كونهم كذلك مما لا منازع فيه وإنما هو للاهتمام بالخبرفلذلك تفيد التعليل والربط وتغني غناء فاء التفريع.
وذكر فعل الكون ليدل على أن ما تضمنه الخبر وصف متمكن منهم فهو غير منقطع ولا هُم حائدون عنه.
ومعنى {قيل لهم لا إله إلا الله} أنه يقال لهم على سبيل الدعوة والتعليم.
وفاعل القول المبنيّ فعله للنائب هو النبي صلى الله عليه وسلم فحذف للعلم به.
والاستكبار: شدة الكبر، فالسين والتاء للمبالغة، أي يتعاظمون عن أن يقبلوا ذلك من رجل مثلهم، ولك أن تجعل السين والتاء للطلب، أي إظهار التكبر، أي يبدو عليهم التكبر والاشمئزاز من هذا القول.
ويقارن استكبارهم أن يقول بعضهم لبعض: لا نترك آلهتنا لشاعر مجنون، وأتوا بالنفي على وجه الاستفهام الإِنكاري إظهارًا لكون ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أمر منكر لا يُطمع في قبولهم إياه، تحذيرًا لمن يسمع مقالتهم من أن يجول في خاطره تأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم {لا إله إلا الله}.
وقوّوا هذا التحذيرَ بجعل حرف الإِنكار مسلّطًا على الجملة الموكَّدة بحرف التوكيد للدلالة على أنهم إذا أتوا ما أنكروه كانوا قد تحقَّق تركُهم آلهتهم تنزيلًا لبعض المخاطبين منزلة من يشك في أن الإِيمان بتوحيد الإِله يفضي إلى ترك آلهتهم ليسدّوا على المخاطبين منافذ التردد أن يتطرق منها إلى خواطرهم.
واللام في {لِشَاعِرٍ} لام العلة والأجْل، أي لأجْل شاعر، أي لأجْل دعوته.
وقولهم: {شاعر مجنون} قول موزع، أي يقول بعضهم: هو شاعر، وبعضهم: هو مجنون، أو يقولون مرة: شاعر، ومرة: مجنون، كما في الآية الأخرى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52].
{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}.
اعتراض في آخر الاعتراض قُصدت منه المبادرة بتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما قالوه.
و{بل} إضراب إبطال لقولهم: {لِشاعر مجنون} [الصافات 36] وبإثبات صفته الحقِّ لبيان حقيقة ما جاء به.
وفي وصف ما جاء به أنه الحق ما يكفي لنفي أن يكون شاعرًا ومجنونًا، فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون إلا التنفير من اتِّباعه فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته، أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه، فكان قوله تعالى: {بل جاءَ بالحقِ} مثبتًا لكون الرسول على غير ما وصفوه إثباتًا بالبينة.
وأتبع ذلك بتذكيرهم بأنه ما جاء إلا بمثل ما جاءت به الرسل من قَبله، فكان الإِنصاف أن يلحقوه بالفريق الذي شابههم دون فريق الشعراء أو المجانين.
وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالًا وتفصيلًا، لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريرًا لما جاءت به الشرائع السالفة فهو تصديق له ومصادقة عليه، أو أن يكون نسخًا لما جاءت به بعض الشرائع السالفة، والإِنباءُ بنسخه وانتهاءِ العمل به تصديق للرسل الذين جاءوا به في حين مجيئهم به، فكل هذا مما شمله معنى التصديق، وأول ذلك هو إثبات الوحدانية بالربوبية لله تعالى.
فالمعنى: أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله، وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر.
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}.
هذا من كلام الله يومَ القيامة الموجّه إلى المشركين عقب تساؤلهم وتحاورهم فيكون ما بين هذا وبين محاورتهم المنتهية بقولهم: {إنَّا كُنَّا غاوِينَ} [الصافات 32] اعتراضًا، أي فلما انتهوا من تحاورهم خوطبوا بما يقطع طمعهم في قبول تنصل كِلا الفريقين من تبعات الفريق الآخَر ليزدادوا تحققًا من العذاب الذي عَلموه من قولهم: {فحق علينا قول ربنا إنَّا لذائقون} [الصافات 31]، وهذا ما تقتضيه دلالة اسم الفاعل في قوله: {لذائِقُوا العَذَابِ} لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال، أي حال التلبس، فإنه لما قيل لهم هذا كانوا مشرفين على الوقوع في العذاب وذلك زمن حَالٍ في العرف العربي.
ولما وصف عذابهم بأنه أليم عُطف عليه إخبارهم بأن ذلك المقدار لا حيف عليهم فيه لأنه على وفاق أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من آثار الشرك، والحَظُّ الأكبر من ذلك الجزاءِ هو حظ الشرك ولكن كني عن الشرك بأعماله وأما هو فهو أمر اعتقادي.
وفي هذا دليل على أن الكفار مجازَوْن على أعمالهم السيئة من الأقوال والأعمال كتمجيد آلهتهم والدعاءِ لها، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وأذاه وأذى المؤمنين، وقولِهم في أصنامهم إنهم شفعاء عند الله، وفي الملائكة إنهم بنات الله، ومن قتل الأنفس والغارة على الأموال ووأد البنات والزنا فإن ذلك كله مما يزيدهم عذابًا، وهو يؤيد قول الذين ذهبوا إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأن ذلك واقع. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)}.
{احشروا} خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، قاله ابن عباس، ورجحه الرماني.
وأنواعهم وضرباؤهم، قاله عمرو ابن عباس أيضًا، أو أشباههم من العصاة، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة، أو قرناؤهم الشياطين.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي: {وأزواجهم} مرفوعًا عطفًا على ضمير ظلموا، أي وظلم أزواجهم.
{فاهدوهم} أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها، والجحيم طبقة من طبقات جهنم.
{وقفوهم} كما قال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وهو توبيخ لهم، {إنهم مسؤولون}.
وقرأ عيسى: {أنهم}، بفتح الهمزة.
قال عبد الله: يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم، وعنه أيضًا: يسألون عن لا إله إلا الله.
وقال الجمهور: وعن أعمالهم، ويوقفون على قبحها.
وفي الحديث: «لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن ما عمل فيما علم» وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله: {ما لكم لا تنصرون} أي إنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع.
وقال الزمخشري: هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين.
وقال الثعلبي: {ما لكم لا تنصرون} جواب أبي جهل حين قال في بدر: {نحن جميع منتصر} وقرئ: {لا تناصرون} بتاء واحدة وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى.
{بل هم اليوم مستسلمون} أي قد أسلم بعضهم بعضًا، وخذله عن عجز، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر.
{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} قال قتادة: هم جن وإنس، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط.
قالوا: أي قالت الإنس للجن.
قال مجاهد، وابن زيد: أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم.
و{اليمين} الجارحة، وليست مرادة هنا.
فقيل: استعيرت لجهة الخير، أو للقوة والشدة، أو لجهة الشهوات، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد، أو الحلف.
ولكل من هذه الاستعارات وجه.
فأما استعارتها لجهة الخير، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور، ويباشرون بها أفاضل الأشياء، وجعلت لكاتب الحسنات، ولأخذ المؤمن كتابه بها، والشمال بخلاف ذلك.
وأما استعارتها للقوة والشدة، فإنها يقع بها البطش، فالمعنى: أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال.
وأما استعارتها لجهة الشهوات، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده، وجهة شماله فيها قلبه ومكره، وهي أخف، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه.
وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه.
وأما الحلف، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.
{قالوا} أي المخاطبون، إما الجن وإما قادة الكفر: {بل لم تكونوا مؤمنين} أي لم نقركم على الكفر، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان.
وقال الزمخشري: وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم، بل كنتم قومًا على الكفر غير ملجئين، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم، بل كنتم قومًا مختارين الطغيان. انتهى.
ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جريًا على مذهبهم.
{فحق علينا قول ربنا} أي لزمنا قول ربنا، أي وعيده لنا بالعذاب.
والظاهر أن قوله: {إنا لذائقون} إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم، الرؤساء، والأتباع.
وقال الزمخشري: فلزمنا قول ربنا: {إنا لذائقون} يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة.
ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قل مالي

ولو حكى قولها لقال: قل مالك، ومنه قول المحلف للحالف: لأخرجن، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى.
{فأغويناكم} دعوناكم إلى الغي، فكانت فيكم قابلية له فغويتم.
{إنا كنا غاوين} فأردنا أن تشاركونا في الغي.
{فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون} أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول، وهذا إخبار منه تعالى، كما اشتركوا في الغي، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب.
{إنا كذلك} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم، فيترتب على إجرامه عذابه.
ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم، وهو الشرك بالله، واستكبارهم عن توحيده، وإفراده بالآلهية.
ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول، وهو نسبته إلى الشعر والجنون، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
وقولهم: {لشاعر مجنون} تخليط في كلامهم، وارتباك في غيهم.
فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنونًا لا يصل إلى شيء من ذلك.
ثم أضرب تعالى عن كلامهم، وأخبر بأن جاء الحق، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال، فليس ما جاء به شعرًا، بل هو الحق الذي لا شك فيه.
ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره.
وقرأ عبد الله: {وصدق} بتخفيف الدال، {المرسلون} بالواو رفعًا، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم.
وقرأ الجمهور: {لذائقو العذاب} بحذف النون للإضافة؛ وأبو السمال، وأبان، عن ثعلبة، عن عاصم: بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب.
كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ: لذائق منونًا، العذاب بالنصب، ويخرج على أن التقدير جمع، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في {إنكم} وقول الشاعر:
فألفيته غير مستعتب ** ولا ذاكر الله إلا قليلًا

وقرئ: {لذائقون} بالنون، العذاب بالنصب، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم، إذ هو ثمرة عملكم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}.
يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم، كما أنهم يشترِكون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}.
احتجابُهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم؛ ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته. ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته؛ قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]، وقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 173] فإنّ مَنْ عَرفَ اللَّهَ فلا لذة له إلا في طاعته، قال قائلهم:
ويظهرُ في الهوى عزُّ الموالي ** فيلزُمني له ذُلُّ العبيد

{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)}.
لمَّا لم يحتشموا من وَصفه سبحانه بما لا يليق بجلاله لم يُبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه. اهـ.